"هيجــت بالقول الذي قد قلته داءً بقلبي ما يزال كمينــــــــــا
قد أيعنت ثمراته في طينــــها وسُقينَ من ماء الهوى فروينـا
كذب الذين تقولوا يا سيـــدي إن القلوب إذا هوينَ هوينـــــا"
تلك الأبيات للجارية (عنان) التي اشتراها الرشيد بعدها من الناطفي بـ 30 ألف؛ لتبيت تلك الليلة عنده، طبعا بعد أن فازت بالبدرة (أي ما يقارب 10 آلاف درهم) إثر منافسة حدثت بينها وبين شعراء مجلسه، وجاءت أبياتها رداً على بيت قاله جرير وطُرب له الرشيد، وهو:
"إن الذين غدوا بلبّكَ غادروا .. وشلاً بعينيك لا يزال قعينــــــا.."
حيث وعد الرشيد بأن من يأتي بما يضاهي بهذه الأبيات له بدرة، وقيل إنهم لم يصنعوا شيئا، فأتى خادم له، فقال: "أنا لك يا أمير المؤمنين"، فذهب بالبدرة إلى (عنان) وقال لها الأبيات فردت عليه بالأبيات السابقة، حيث يحكى أنها شاعرة طلقة اللسان.
يقول الأصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذلاً قط إلا مرة كتبت إليه عنان جارية الناطفي رقعة فيها:
"كنتُ في ظل نعمة بهواكا آمنا منك لا أخاف جفاكـــــا
فسعى بيننا الوشاة فأقررتَ عيون الوشــــاة بي فهناكـــا
ولعمري لغيرُ ذا كان أولـى بك في الحق يا جُعلتُ فداكــا"
فطلب بعدها من جلسائه أن يشيروا برد على المعنى الذي بنفسه بأبيات، ولهم عشرة آلاف درهم، وكان من بينهم أبو جعفر الشطرنجي، فقال أبو جعفر:
"مجلسٌ يُبسب السرور إليـــــه لمحبّ ريحانه ذكراهـــــــــا"
فقال الأصمعي: فقلت:
"لم ينلك الرجاء أن تحضريني وتجافت أمنيّتي عن سواكــــا"
وقال جرير:
"كلما دارت الزجاجة والكـــأ سُ أعارته صبوةً فبكــــــاكـــــا"
فقال الرشيد: أنا أشعركم؛ حيث أقول:
"قد تمنيت أن يغشيني اللـــــ ـــه نُعاساً لعلّ عيني تراكــــــــا"
فقلنا: "صدقت يا أمير المؤمنين".
وأيضاً يحكى عن الأصمعي أنه دخل على هارون الرشيد ذات مرة، ولقي عنده جارية كانت تضع بين عينيها هلالاً مكتوباً عليه بالذهب: (هذا ما عمل في طراز الله)، فقال الرشيد: يا أصمعي صفها، فقال الأصمعي أبياته الشهيرة:
"كنانيةُ الأطراف سعدية الحشا هلاليةُ العينين طائيّة الفــــمِ
لها حكم لقمان وصورةُ يوسأف ونغمةُ داود وعفة مريــــــمِ"
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
قيل إن مغنياً غنى للأمين بعض الأبيات من الشعر الرقيق في التغزل بالغلمان، فطرب له الأمين حتى قام من مجلسه، وقبل رأس المغني، ثم أمر له بجائزة، فقال المغني مندهشاً: " يا سيدي لقد أجزيتني بعشرين ألف ألف درهم!" أي عشرين مليون درهم، فرد عليه الأمين باستصغار للمبلغ و مدى سهولة تجميعه: " وهل ذلك إلا من خراج أهل الكور" أي أموال الضرائب التي تخرجها القرى! وبين عدم كلل أمراء وملوك ذلك الوقت بتوزيع المال على شهواتهم وطربهم للشعر والغناء، وهذا المال هو نفسه الذي أُخذ عنوة عن طريق الضرائب من البسطاء، قام كثير من شعراء ذلك العصر احتراف طريقة الإبداع بعد الأمر الملكي والغزل الإجباري أي كانوا يتنافسون على دور (شاعر الملك المفضل والمدلل)، لا يخفى على أحد إبداعهم الشعري وانتقاء مفرداتهم بتفرد والعبقرية الواضحة برسم الأبيات، إلا أن أعذبه أكذبه كما يُقال.. وكأن الزمان يعيد نفسه فقد انطلقت في 7/9/2011 مسابقة شعرية تسمى: شاعر الملك.. يتنافس الشعراء بها للفوز بلقب شاعر الملك، وكأنهم كانوا ينتظرون مسابقة لينافسون على اللقب! وغير ذلك الكثير من تلك المواقف التي يوضع الشاعر بها ليرضي بها الملك وذائقته، فإسحاق بن إبراهيم الموصلي يحكي أنه دخل على الرشيد وعنده جارية قد أهديت له، عرف عنها بأنها ماجنة شاعرة أديبة، وكان بين يديه طبق من ورد، فقال له الرشيد: "أما ترى حسن هذا الورد ونضرة لونه ؟" قل فيه بيتاً يشبهه، فسكت الموصلي قليلا ثم قال:
"كأنه خدّ موموق يُقبّله فم الحبيب وقد أبدى به خَجَلا"
اعترضته الجارية، فقالت:
" كأنه لونُ خدّي حين تدفعُني كفُّ الرشيد لأمرٍ يوجُب"
فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة.
وأيضاً حدّث أبو جعفر عن محمد بن زبيدة الأمين في قصر له، إذ مرّ بجارية بحالة سكر، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين أنا على ما ترى (أي مريضة)، إذا كان في غد إن شاء الله! فمضى إليها اليوم الثاني، فقال: الوعد، فقال يا أمير المؤمنين، أما علمت أن "كلام الليل يمحوه النهار؟"
فضحك.. وخرج إلى مجلسه، لقي من شعرائه مصعب والرقاشي وأبو نواس، فقال لهم: ليقل كل واحدٍ منكم شعراً يكون آخره: "كلام الليل يمحوه النهار"
رد عليه الشعراء بما يريد، فيفوق الواحد زميله طلاقة، وكان أدهاهم أبو نواس، كان ذكي وشديد الملاحظة والبصيرة.. قال الرقاشي:
"متى تصحو وقلبُك مستطـــارُ وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك.. صبّا مستهامـــاً فتاةٌ لا تزورُ ولا تـــُــــزارُ
إذا استنجزت منها الوعد قالت كلامُ الليل يمحوه النهـــــار"
وقال مصعب:
"أتعذلني و قلبك مستطــــارُ كئيبٌ لا يقر له قــــــــــــــرارُ
بحب مليحةٍ صادت فـــؤادي بألحاظ يُخالطها احــــــــورارُ
ولما أن مددتُ يدي إليهـــــا لألمسها بدا منهــــــــــــا نٍفارُ
فقلت لها عديني منكِ وعـداً فقالت: في غدٍ منــــك المــــزارُ
فلما جئت مقتضياً أجابـــت: كلام الليل يمحــــــوه النــــهارُ "
وقال أبو نواس:
"وخوْدٍ أقبلت في القصـــــــر سكرى ولكن زيّن السّكر الوقارُ
وهزّ المشي أردافاً ثقــــــــالاً وغُصناً فيه.. رمـــانٌ صــــــــغارُ
وقد سقط الرّدا عن منكبيهـا من التخميش و انحـــــــــلّ الإزارُ
فقلت: الوعدَ سيدتي، فقالـــت كلامُ الليل يمحوه النهــــــــــــارُ"
فقال الأمير لأبي نواس: أخزاك الله! أكنت معنا ومطلعاً علينا؟ فأمر لهم بأربعة آلاف درهم لكل واحد.
مسألة الإبداع في ذلك الوقت مسألة حتمية إجبارية على الشاعر، وخاصة في مثل هذه الحالات، فجلساء الملك من شعراء وغيرهم لن يُخفى عليهم شيء من تفاصيل نفس الملك من كثرة مجالسته ومنادمته، فأبو نواس هنا شرح تفاصيل الجسد الذي فَتن أميره، وكأنه كان يراقبه، لكن الأحرى بالقول هو من شدة ملاحظته لما يحبه ذلك الأمير وما يحبه، ما يغريه بالنساء وما يكرهه لذلك، نستطيع أن نقول أن أبا نواس كان شديد الملاحظة أو حافظ للشخصية، وليس بساحر أو متلصص، تلك الأمورلم يبرع بها ذلك الشاعر وحده، بل تنافسوا عليها شعراء جيله، فشاعر الملك كواعظ الملك كجارية الملك، جميعهم سواسية، ليس لمكانة أحدهم الاجتماعية فضل على الأخرى، جميعهم يتهافتون؛ لرضائه وكسب إعجابه، ولكن منهم من لبس الفضيلة، ومنهم من لبس العهر ومنهم من أجاد الطرب أوالتهريج.
سبر القوافي
قد أيعنت ثمراته في طينــــها وسُقينَ من ماء الهوى فروينـا
كذب الذين تقولوا يا سيـــدي إن القلوب إذا هوينَ هوينـــــا"
تلك الأبيات للجارية (عنان) التي اشتراها الرشيد بعدها من الناطفي بـ 30 ألف؛ لتبيت تلك الليلة عنده، طبعا بعد أن فازت بالبدرة (أي ما يقارب 10 آلاف درهم) إثر منافسة حدثت بينها وبين شعراء مجلسه، وجاءت أبياتها رداً على بيت قاله جرير وطُرب له الرشيد، وهو:
"إن الذين غدوا بلبّكَ غادروا .. وشلاً بعينيك لا يزال قعينــــــا.."
حيث وعد الرشيد بأن من يأتي بما يضاهي بهذه الأبيات له بدرة، وقيل إنهم لم يصنعوا شيئا، فأتى خادم له، فقال: "أنا لك يا أمير المؤمنين"، فذهب بالبدرة إلى (عنان) وقال لها الأبيات فردت عليه بالأبيات السابقة، حيث يحكى أنها شاعرة طلقة اللسان.
يقول الأصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذلاً قط إلا مرة كتبت إليه عنان جارية الناطفي رقعة فيها:
"كنتُ في ظل نعمة بهواكا آمنا منك لا أخاف جفاكـــــا
فسعى بيننا الوشاة فأقررتَ عيون الوشــــاة بي فهناكـــا
ولعمري لغيرُ ذا كان أولـى بك في الحق يا جُعلتُ فداكــا"
فطلب بعدها من جلسائه أن يشيروا برد على المعنى الذي بنفسه بأبيات، ولهم عشرة آلاف درهم، وكان من بينهم أبو جعفر الشطرنجي، فقال أبو جعفر:
"مجلسٌ يُبسب السرور إليـــــه لمحبّ ريحانه ذكراهـــــــــا"
فقال الأصمعي: فقلت:
"لم ينلك الرجاء أن تحضريني وتجافت أمنيّتي عن سواكــــا"
وقال جرير:
"كلما دارت الزجاجة والكـــأ سُ أعارته صبوةً فبكــــــاكـــــا"
فقال الرشيد: أنا أشعركم؛ حيث أقول:
"قد تمنيت أن يغشيني اللـــــ ـــه نُعاساً لعلّ عيني تراكــــــــا"
فقلنا: "صدقت يا أمير المؤمنين".
وأيضاً يحكى عن الأصمعي أنه دخل على هارون الرشيد ذات مرة، ولقي عنده جارية كانت تضع بين عينيها هلالاً مكتوباً عليه بالذهب: (هذا ما عمل في طراز الله)، فقال الرشيد: يا أصمعي صفها، فقال الأصمعي أبياته الشهيرة:
"كنانيةُ الأطراف سعدية الحشا هلاليةُ العينين طائيّة الفــــمِ
لها حكم لقمان وصورةُ يوسأف ونغمةُ داود وعفة مريــــــمِ"
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
قيل إن مغنياً غنى للأمين بعض الأبيات من الشعر الرقيق في التغزل بالغلمان، فطرب له الأمين حتى قام من مجلسه، وقبل رأس المغني، ثم أمر له بجائزة، فقال المغني مندهشاً: " يا سيدي لقد أجزيتني بعشرين ألف ألف درهم!" أي عشرين مليون درهم، فرد عليه الأمين باستصغار للمبلغ و مدى سهولة تجميعه: " وهل ذلك إلا من خراج أهل الكور" أي أموال الضرائب التي تخرجها القرى! وبين عدم كلل أمراء وملوك ذلك الوقت بتوزيع المال على شهواتهم وطربهم للشعر والغناء، وهذا المال هو نفسه الذي أُخذ عنوة عن طريق الضرائب من البسطاء، قام كثير من شعراء ذلك العصر احتراف طريقة الإبداع بعد الأمر الملكي والغزل الإجباري أي كانوا يتنافسون على دور (شاعر الملك المفضل والمدلل)، لا يخفى على أحد إبداعهم الشعري وانتقاء مفرداتهم بتفرد والعبقرية الواضحة برسم الأبيات، إلا أن أعذبه أكذبه كما يُقال.. وكأن الزمان يعيد نفسه فقد انطلقت في 7/9/2011 مسابقة شعرية تسمى: شاعر الملك.. يتنافس الشعراء بها للفوز بلقب شاعر الملك، وكأنهم كانوا ينتظرون مسابقة لينافسون على اللقب! وغير ذلك الكثير من تلك المواقف التي يوضع الشاعر بها ليرضي بها الملك وذائقته، فإسحاق بن إبراهيم الموصلي يحكي أنه دخل على الرشيد وعنده جارية قد أهديت له، عرف عنها بأنها ماجنة شاعرة أديبة، وكان بين يديه طبق من ورد، فقال له الرشيد: "أما ترى حسن هذا الورد ونضرة لونه ؟" قل فيه بيتاً يشبهه، فسكت الموصلي قليلا ثم قال:
"كأنه خدّ موموق يُقبّله فم الحبيب وقد أبدى به خَجَلا"
اعترضته الجارية، فقالت:
" كأنه لونُ خدّي حين تدفعُني كفُّ الرشيد لأمرٍ يوجُب"
فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة.
وأيضاً حدّث أبو جعفر عن محمد بن زبيدة الأمين في قصر له، إذ مرّ بجارية بحالة سكر، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين أنا على ما ترى (أي مريضة)، إذا كان في غد إن شاء الله! فمضى إليها اليوم الثاني، فقال: الوعد، فقال يا أمير المؤمنين، أما علمت أن "كلام الليل يمحوه النهار؟"
فضحك.. وخرج إلى مجلسه، لقي من شعرائه مصعب والرقاشي وأبو نواس، فقال لهم: ليقل كل واحدٍ منكم شعراً يكون آخره: "كلام الليل يمحوه النهار"
رد عليه الشعراء بما يريد، فيفوق الواحد زميله طلاقة، وكان أدهاهم أبو نواس، كان ذكي وشديد الملاحظة والبصيرة.. قال الرقاشي:
"متى تصحو وقلبُك مستطـــارُ وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك.. صبّا مستهامـــاً فتاةٌ لا تزورُ ولا تـــُــــزارُ
إذا استنجزت منها الوعد قالت كلامُ الليل يمحوه النهـــــار"
وقال مصعب:
"أتعذلني و قلبك مستطــــارُ كئيبٌ لا يقر له قــــــــــــــرارُ
بحب مليحةٍ صادت فـــؤادي بألحاظ يُخالطها احــــــــورارُ
ولما أن مددتُ يدي إليهـــــا لألمسها بدا منهــــــــــــا نٍفارُ
فقلت لها عديني منكِ وعـداً فقالت: في غدٍ منــــك المــــزارُ
فلما جئت مقتضياً أجابـــت: كلام الليل يمحــــــوه النــــهارُ "
وقال أبو نواس:
"وخوْدٍ أقبلت في القصـــــــر سكرى ولكن زيّن السّكر الوقارُ
وهزّ المشي أردافاً ثقــــــــالاً وغُصناً فيه.. رمـــانٌ صــــــــغارُ
وقد سقط الرّدا عن منكبيهـا من التخميش و انحـــــــــلّ الإزارُ
فقلت: الوعدَ سيدتي، فقالـــت كلامُ الليل يمحوه النهــــــــــــارُ"
فقال الأمير لأبي نواس: أخزاك الله! أكنت معنا ومطلعاً علينا؟ فأمر لهم بأربعة آلاف درهم لكل واحد.
مسألة الإبداع في ذلك الوقت مسألة حتمية إجبارية على الشاعر، وخاصة في مثل هذه الحالات، فجلساء الملك من شعراء وغيرهم لن يُخفى عليهم شيء من تفاصيل نفس الملك من كثرة مجالسته ومنادمته، فأبو نواس هنا شرح تفاصيل الجسد الذي فَتن أميره، وكأنه كان يراقبه، لكن الأحرى بالقول هو من شدة ملاحظته لما يحبه ذلك الأمير وما يحبه، ما يغريه بالنساء وما يكرهه لذلك، نستطيع أن نقول أن أبا نواس كان شديد الملاحظة أو حافظ للشخصية، وليس بساحر أو متلصص، تلك الأمورلم يبرع بها ذلك الشاعر وحده، بل تنافسوا عليها شعراء جيله، فشاعر الملك كواعظ الملك كجارية الملك، جميعهم سواسية، ليس لمكانة أحدهم الاجتماعية فضل على الأخرى، جميعهم يتهافتون؛ لرضائه وكسب إعجابه، ولكن منهم من لبس الفضيلة، ومنهم من لبس العهر ومنهم من أجاد الطرب أوالتهريج.
سبر القوافي